أحمد الهاشمي طبيب · مبرمج · معلم

1 Jun 2007

الرمادية: بالأبيض والأسود

الرمادية من المواضيع الساخنة في الكثير من النقاشات، خاصة السياسية منها، فالساسة يحبون استخدامها كسلاح للتملص من اعطاء رأيهم في القضايا الشائكة التي قد تأثر على شعبيتهم، فعندما تسأله سؤالا واضحا وصريحا ولا يحتمل سوى اجابتين، تجده يرد بأن هنالك منطقة رمادية، بين نعم ولا، وأن رأيه يقع في هذه المنطقة، فهو ليس مؤيد ولا معارض، وانما بين الاثنان.

في احدى المحاضرات السياسية التي حضرتها تحدث المحاضر عن الرمادية وقارنها بالتفكير الثنائي، وكان يقول بأن المنطق الثنائي هو منطق الكمبيوتر، فالكمبيوتر لا يعرف سوى الصفر والواحد، وهو أمر صحيح، فكل التعقيد الذي تراه على شاشة الكمبيوتر يخلص في النهاية إلى الصفر والواحد، وأكمل المحاضر حديثه بعد ذلك بأن قال بأن الإنسان، بعكس الكمبيوتر، لديه القدرة على تمييز ما هو أكثر من الصفر والواحد، وهنا أخطأ المحاضر، فالحقيقة هي أن الخلايا العصبية التي هي سبب منطق الانسان هي أيضا في حالة واحدة من حالتين: اما فعالة أو غير فعالة، ولا توجد حالة وسط.

المحاضر خيّل له ان قدرتنا على تمييز درجات الرمادي دليل على أن تعقيد المنطق البشري لا يمكن أن يختصر في النهاية إلى مكونات ثنائية الحالة، لكنه كان مخطئا جدا، فالرمادية ليست أمرا حقيقيا، الرمادية مجرد وهم.

لكنك ستقول لي: كيف تكون الرمادية مجرد وهم وأنا أرى اللون الرمادي في كل مكان أمامي الآن؟ إذا كانت الرمادية مجرد وهم، فما هي حقيقة ما أراه عندما أرى اللون الرمادي؟

الحقيقة هي أن اللون الرمادي هو اللون الذي نراه عندما يختلط الأسود بالأبيض بحيث يصعب علينا التمييز بينهما، وعندها نرى ذلك الوهم، وهو ليس لونا حقيقيا لاننا لو تمكنا من تحسين قدراتنا وامكانياتنا بحيث اصبح بامكاننا تمييز الأبيض من الأسود في الأمور الرمادية فاننا سنتوقف عن تسمية هذا الأمر أمرا رماديا.

كيف تخلط الأبيض بالأسود لتحصل على اللون الرمادي؟ هنالك طريقتان.

الأولى هي أن تقوم بوضع نقاط سوداء وبيضاء تكون صغيرة جدا في الحجم لدرجة أنك لا تستطيع أن تشاهد كل نقطة على حدى، فترى الأبيض والأسود مختلطان في لون رمادي.

الطريقة الثانية للحصول على اللون الرمادي هو أن تغير لون الشيء بين الأبيض والأسود بسرعة عالية، بحيث لا تستطيع مشاهدة الشيء في لونه الحقيقي في كل لحظة وبالتالي تختلط عليك الأمور وتراها رمادية.

ما أريد الوصول إليه هو أن اللون الرمادي هو اللون الذي تراه عندما تختلط عليك الأمور، وبالتالي فإنه لا يعني نهاية الطريق، إذا عرفت بأن منطقة ما رمادية، فاعرف بان هنالك أمور غير واضحة عليك، وهنالك مجال للاستكشاف أكثر للتمييز بين الأبيض والأسود بها، وإذا قال لك مرشح ما بأن رأيه في قضية ما يقع في المنطقة الرمادية، فطالبه بأن يوضح لك الأبيض والأسود في منطقته الرمادية، فالرمادية وحدها ليست إجابة على السؤال.

هل يعني بذلك بأن من الخطأ أن نسمي منطقة ما بالمنطقة الرمادية؟ بالطبع لا، تسميتنا لمنطقة ما بأنها منطقة رمادية يجب أن يكون اعتراف منا باحتمال احتوائها على الأبيض والأسود، وأننا لا نستطيع أن نرى الأبيض من الأسود فيها، وأن نعلم ذلك بداية جيدة، لأنه اعتراف بالجهل.

الأسوأ من ذلك هو أن نأتي لمنطقة يختلط بها الأبيض بالأسود، وبدلا من أن نلقي نظرة أقرب لها، ونحاول تحليلها أكثر للتوصل إلى التمييز بين الأبيض والأسود، فاننا نصر على أنها بيضاء وأنها خالية من السواد، أو أنها سوداء خالية من البياض، فهذا هو ما يسمى بالجهل المركب، أي أنك لا تدري وفوق ذلك فإنك تصر على انك تدري، أي انك لا تدري بأنك لا تدري.

خلاصة ما أريد الوصول إليه هو أن الرمادية ليست الحل، وليست الإجابة الصحيحة على أي شيء، لكن الاعتراف بها أمر جيد.


→ عودة لقائمة المقالات