أحمد الهاشمي طبيب · مبرمج · معلم

14 Sep 2017

هل نحتاج للخبراء في عصر المعلوماتية؟

اذا كنت تعرفني فانت تعرف انني احب النقاش سواء مع الزملاء أو الأهل أو الأصدقاء أو آخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هذه النقاشات بعضها يكون ضمن نطاق عملي كطبيب متخصص لكنها كثيرا ما تكون خارج نطاق هذا التخصص، فهل يعني ذلك أن رأيي غير مُعتد به في الأمور الخارجة عن تخصصي؟ واذا كان رأيي معتدا به في تلك الأمور فهل يعني ذلك أن رأي غير المختصين معتد به أيضا في تخصصي؟ ما هي فائدة «التخصص» اذا؟

هذه الأسئلة تحمل في طياتها عدة أسئلة أعمق، سأحاول في سلسلة من المقالات القصيرة أن أجيب عن بعض هذه الأسئلة، وسنحاول في النهاية أن نركب هذه القطع مع بعضها لعلنا نصل لفهم أعمق للمفاهيم التي تتناولها هذه الأسئلة.

السؤال الذي سأجيب عنه في هذه المقالة هو «لماذا نعتمد على الخبراء للاجابة عن الاسئلة أو التوصل للحل الأمثل لمشكلة ما؟»، الاجابة بالنسبة للبعض بديهية، الخبير قضى سنوات عمره في فهم المجال وبالتالي فانه يملك من العلم والخبرة والفهم للمجال ما يمكّنه من الاجابة على السؤال في مجاله بصورة أفضل من الشخص المبتدأ.

لكن هنالك من يعترض على ذلك! والاعتراض يكون على النحو التالي: نحن الآن في عصر المعلوماتية، الخبير يدعي أنه «يعرف كل شيء في المجال» لكنه في الواقع ليس سوى شخص معرّض للخطأ، بدلا من تضييع وقتنا مع شخص لا نعرفه، لماذا لا نذهب مباشرة لمصادر المعلومات ونبحث عن الاجابة بأنفسنا؟

هذه بالضبط هي عقلية «المبتدأ» الذي يعتقد أن بضع دقائق أو ساعات أو أيام أو حتى سنة من البحث على الانترنت -في أوقات الفراغ- ستمكنه من التوصل للاجابة التي سيتوصل لها الخبير الذي قضى عدة سنوات يدرس ويمارس بصورة مكثفة ليصل الى الفهم العميق في مجاله.

في دراسة قارنت بين طلبة السنة الأولى في الجامعة وطلبة السنة الثالثة والأكاديميين الذين يدرسونهم في الجامعة، وجد الباحثون أن المعلومات التي يمتلكها طلبة السنة الأولى مقارنة بمن هم أكثر خبرة محدودة جدا ومبعثرة وغير مترابطة وفوق ذلك تختلف بين طالب وآخر، أي أنك اذا سألت السؤال التخصصي نفسه لعدة طلبة في السنة الأولى ستحصل على اجابات مختلفة -وفي الغالب خاطئة-، في المقابل، اذا سألت السؤال نفسه لعدة خبراء فستحصل على اجابات متقاربة تحول كلها حول الحقائق الجوهرية في المجال.

لكن وان سلمنا أن المبتدأ لا يملك المعلومة، اليس من الممكن له أن يجدها بسهولة على الانترنت؟ المشكلة الأولى في هذه الفكرة هي أن جزءا كبيرا من المعارف التي يكتسبها الخبير بالممارسة هي ما يسمى «بالمعارف الضمنية — Tacit Knowledge»، هذه المعارف موجودة في عقل الخبير لكنها -بالتعريف- غير قابلة للترجمة الى كلمات وشرح، هذا النوع من المعارف هي التي تمكن الممرض الجيّد من التعرف على المريض الغير مستقر ضمن عشرات المرضى في قاعة الانتظار بنظرة واحدة خاطفة والاسراع به لغرفة الانعاش قبل فوات الأوان.

مهما بذل المبتدأ من الجهد في البحث والاطلاع على الانترنت فانه لن يتمكن من اكتساب هذا النوع من المعارف دون الانخراط في المجال تحت التوجيه والتقويم المستمر من خبير حقيقي في المجال، في دراسات أجريت على كيفية اتخاذ الأطباء الخبراء لقراراتهم العلاجية، تبين أن غالبيتهم يتوصلون لنفس التشخيص والعلاج لكن عندما يُطلب منهم أن يشرحوا الطريقة التي توصلوا بها لهذه نجد أن هنالك اختلافات كبيرة بين الأطباء، أي أن الطبيب «أ» والطبيب «ب» كلاهما قد يشخص نفس المرض ويصرف نفس العلاج لكن الأسباب التي يصرحون عنها مختلفة تماما، هذا يلمح أن هنالك دور كبير «للمعرفة الضمنية» المشتركة بين الأطباء والتي استخدموها لاتخاذ قرارات متشابهة دون أن يتمكنوا من التصريح عنها.

الذي يعقّد هذه الحقيقة هو عدم وعي المبتدأ بقصور مداركه، تُعرف هذه بظاهرة «دانينج-كروغر» نسبة لعالما النفس اللذان نشرا دراسة شهيرة حول الموضوع، المبتدأ يعتقد أنه يعرف أكثر مما يعرف في الواقع، المبتدأ لا يعرف الأمور التي لا يعرفها –أي نقاط ضعفه في المجال–، وعلى خلاف ذلك يمتلك الخبير نظرة شمولية للمجال ويعرف كل نقاط ضعفه وقوته فيه ونقاط ضعف وقوة المجال بأكمله من ناحية القدرة على حل المشاكل أو الاجابة على الاسئلة، الخبير يستطيع أن يقول لك بثقة: «هنالك اجابة على هذا السؤال وهي تحضرني الآن لكنني أعرف أين أجدها»، أو «لا يوجد في مجالنا الى الآن اجابة جيدة على هذا السؤال» أو «الاجابة على هذا السؤال لا تقع ضمن مجال تخصصنا»، في المقابل المبتدأ عادة ما يتميز بقدرة ابداعية عالية في ايقاع نفسه بأخطاء تضحك الخبير عندما يحاول أن يجيب عن سؤال لا يعرف اجابته أو لا توجد له اجابة ضمن المجال حتى الآن.

عدم قدرة المبتدأ على تحديد مواطن ضعفه تعني أنه لن يستطيع أن يبحث عن المعلومة التي يحتاجها للتوصل للحل الصحيح للمشكلة، لأنه لا يعرف أن هنالك معلومة تنقصه أساسا وحتى ان علم ذلك فانه لن يعرف الكلمات المطلوبة للبحث عن الاجابة، اضف ذلك لأهمية الخبرة العملية تحت اشراف شخص يمتلك الخبرة في المجال لاكتساب المعرفة الضمنية المطلوبة وستعرف ان الحلول التي يتوصل لها المبتدأ عبر البحث الفردي على الانترنت قد تكون مجرد أوهام، والمبتدأ لن يعرف ذلك.

سأترككم هنا مع السؤال الذي سأحاول الاجابة عنه في المقالة القادمة وهو هل يمكن لشخص واحد أن يكون خبيرا في «كل شيء»؟

ملاحظة: على الرغم من انني تحدثت عن «المتخصص» في بداية المقالة لكنني تعمدت تجاهل ذلك المصطلح وتحدثت عن «الخبير» بدلا من ذلك، وللحديث بقية في مقالات لاحقة.


→ عودة لقائمة المقالات