أحمد الهاشمي طبيب · مبرمج · معلم

16 Sep 2017

هل يمكنك أن تكون خبيرا في «كل شيء»؟

في المسلسلات الأمريكية، هنالك صورة نمطية سلبية للشخص الذي «يعرف كل شيء Know It All»، وعادة ما يُقصد به الشخص الذي يمتلك رصيدا من المعلومات العامة يستخدمه للتعليق على أحاديث الآخرين، وقد تحدثت في مقالتي السابقة عن الفرق بين الخبير والمبتدأ وكيف أن المبتدأ قد يكون جاهلا بكونه مبتدأ، فيصبح متطفلا في مجالات لا يفقه بها أو يمتلك معلومات سطحية عنها تُمكنه من كتابة تعليقات تبدو في الظاهر من صلب المجال لكنها في الواقع سطحية وغير مثرية للنقاش، ولعل هذا الشخص المزعج يستحق تلك النظرة السلبية.

لكننا هنا نريد الحديث عن الخبير الحقيقي ليس الواهم، لنعد للسؤال -هل يمكنك أن تكون خبيرا في كل شيء؟- بالمعنى الحرفي، وكل شيء هنا تعني الفيزياء والأدب الصيني والفلسفة اليونانية والحياكة وفيسيولوجيا الرياضة وعلم النفس وكل شيء آخر في العالم، اذا حاولت اكتساب كل العلوم والمعارف كل على حدى سيكون من الواضح أن عمرك لن يكفي، لكن هل هنالك أمور ومهارات أساسية اذا تعلمتها ستنفتح لك أبواب العلم بحيث تصبح متمكنا من كل شيء؟

الاجابة باختصار هي لا، ممارسة مهارة ما تزيد خبرتك في تلك المهارة فقط، وهذه الخبرة لا تنتقل لمهارات أخرى، اذا قضى انسان عمره في اتقان العزف على البيانو فلا تتوقع منه أن يعزف على القيثارة عندما يمسكها للمرة الأولى، لطالما كانت هذه المغالطة سببا في الاحباط، حيث يعتقد الشخص الذي يمتلك القدرة على توليد افكار اصلاحية تعجب الناس في الديوانية أنه سيكون متمكنا في عالم السياسة أو يعتقد طبيب الاسنان أنه مؤهل للحديث عن الغدد الصماء -بعد بحث سريع على الانترنت- بسبب تقارب هذه العلوم أو يعتقد الجراح المتفوق في العمليات المفتوحة أنه سيكون متفوقا -تلقائيا- في عمليات المناظير أو يعتقد مدرس التربية البدنية أن افضل شخص لتمثيل المدرسة في سباق الجري هو أكثرهم قدرة على تسجيل الأهداف في كرة القدم، صحيح أن هنالك مهارات مشتركة بين هذه المجالات، لكن كونها مجالات مختلفة يعني انها تتطلب مهارات مختلفة تختص بكل واحدة منها.

في الواقع، التقارب بين المجالات هو السبب الذي يجعل الشخص مبتدأً في المجالات المتعلقة بمجاله الأساسي وبالتالي عرضة لعقلية المبتدأ التي تحدثت عنها في المقالة الأولى، اذا طلبت مني مثلا أن أفاضل معادلة رياضية فسأخبرك مباشرة أن ذلك خارج مجال خبرتي ولن أحاول أن أجيبك بل سأستغرب من سؤالك لي، لكن الخطورة هي أن تسألني في مجال قريب من مجالي، أعرف عنه القليل -مثل العلاج الطبيعي- وأعتقد واهما أنني قادر على الاجابة عن سؤالك فاعطيك اجابة خاطئة.

لكن ماذا عن «متعددي المواهب»؟ أحيانا يُشبّه هؤلاء بـ«رجال النهضة Renaissance Men» -مع التحفظ على ذكورية المصطلح- وأفضل مثال على ذلك «ليوناردو دافينشي» الذي كان رساما ونحاتا وكاتبا وموسيقيا وعالما ومخترعا ومعماريا وغيرها، فهل امتلك دافينشي معلومة أو مهارة واحدة خاصة مكنته من السيطرة على هذا العدد الواسع من العلوم والمعارف؟ الاجابة هي لا، الطريقة التي اكتسب بها كل هذه القدرات والمعارف هي بممارسته كل منها لسنوات طويلة مدفوعا بالشغف والفضول لبذل المجهود الشاق المطلوب لاكتساب كل هذه المهارات والاستمرار بصقلها طوال حياته، بالاضافة لذلك كان هنالك عامل آخر مهم وهو التتلمذ على يد خبير هذه المجالات وهو «فروكيو» الذي درس عنده دافينشي لمدة ستة سنوات وتتلمذ على يده كثيرون، والعمل تحت اشراف الخبير محفز ممتاز يساعد المتعلم أن ينتقل من مرحلة المبتدأ لمرحلة الخبير.

ماذا عن «التخصص»؟

في كل حديثي السابق تعمدت استخدام كلمة «خبير» بدلا من «متخصص»، المشكلة التي أراها في كلمة متخصص هي أنها تحمل ضمنيا تضييقا لمجال المعرفة، فلا يمكن لأحد أن يكون «متخصصا في كل شيء» لأنه تعبير متناقض، التخصص قد يعبر ايضا عن اعتزام الشخص التركيز على مجال محدد لكنه قد لا يعني بالضرورة امتلاكه للخبرة بعد.

خذ كمثال على ذلك شخصا حصل على شهادة البكالريوس في الفيزياء ثم الماجستير والدكتوراه في أحد فروعها وعمل كبروفيسور في الجامعة لمدة عشرين سنة، في مقابل ذلك طالب سنة رابعة بكالريوس رياضيات على مشارف التخرج، الأول متخصص في الفيزياء والثاني متخصص في الرياضيات لكن من غير المستبعد أبدا أن الأول سيكون خبيرا في عدة مجالات في الرياضيات سيكون الثاني مبتدأً بها.

تخصص الشخص قد يأتي من تعريف الشخص بنفسه كـ«معلم شاورما» أو من عبر حيازته لشهادة بكالريوس في «التربية» أو مسماه الوظيفي كـ«مدير اقليمي» أو غيرها، لكن هذه المسميات ليس لها علاقة بقدرة الانسان على أداء دور الخبير في هذه المجالات، الممارسة فقط هي التي تمكنه من ذلك.

الوعي لا يتطلب أن تكون خبيرا

هنالك فرق مهم بين الخبير والانسان الواعي أو المثقف في مجال ما، الخبير كما ذكرت سابقا يمتلك سنوات من الخبرة والمعرفة تمكنّه من التوصل لحل مشكلة ما أو الاجابة عن سؤال في مجاله، في المقابل الانسان الواعي هو شخص يعرف الاجابة «الصحيحة» عن الاسئلة التي يحتاجها لممارسة حياته اليومية.

الطبيب يستطيع أن يستنبط الاجابة على سؤال مثل «هل التدخين مضر؟» ابتداء من الطريقة العلمية ونتائج الدراسات العلمية، في المقابل، الانسان الذي يمتلك وعيا صحيا يستطيع أن يجيب بـ«نعم» على ذلك السؤال لكنه لن يستطيع ان يدخل في مناظرة يدافع فيها عن هذه الاجابة بكفاءة، الوعي بعدة جوانب من الحياة يساعد الانسان على ان يعيش حياة أفضل ويمارس دوره في دفع المجتمع نحو الأفضل عبر نشر هذا الوعي واستخدامه في تحديد مواقفه في المجتمع مثل المطالبة بمنع التدخين في الأماكن العامة، اذا توافق ذلك مع قيمه.

لكن من المهم أن نتذكر مجددا خطورة عقلية المبتدأ، الشخص الذي يقرر أنه يريد أن «يثقّف نفسه صحيا» ويبدأ بجمع المعلومات الصحية قد يجد نفسه في تلك العقلية ويبدأ بتجاوز حدود معرفته ويتحول من انسان واع صحيا الى منتج وناشر للأوهام على الانترنت.

في المقالة القادمة سأحاول أن أجيب عن السؤال «هل يمكنك أن تصبح خبيرا دون ارشاد؟»

المقالة الأولى في هذه السلسلة: هل نحتاج للخبراء في عصر المعلوماتية؟


→ عودة لقائمة المقالات